عن أمير المؤمنينَ أبي حفصٍ عمرَ بن الخطاب – رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله يقول :
( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىءٍ ما نوى ، فمن كانت هجرتُهُ إلى الله ورسولِهِ فهجرتُهُ إلى الله ورسولِهِ ، ومن كانت هجرتُهُ لدنيا يُصيبها أو امرأةٍ ينكِحُها فهجرتُهُ إلى ما هاجر إليه )
( متفق عليه – أخرجه أبو داوود ، وابن ماجة ، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في المجموع )
وقد تفرد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – برواية هذا الحديث 0
وأستعرض تحت هذا العنوان الأمور الهامة التالية :
* نانياً : منزلة الحديث :
1) هذا الحديث من جوامع كلمه : ( جوامع الكلم : قلة ألفاظ الكلام مع احتوائها على كثرة المعاني والفوائد ) 0
2)- : أقوال بعض أهل العلم في هذا الحديث :
قال المناوي – رحمه الله - : ( قال الإمام الشافعي : حديث النية يدخل في سبعين باباً من الفقه، وما ترك لمبطل، ولا مضار، ولا محتال حجة إلى لقاء الله تعالى )( فيض القدير – 1/32 ) 0
قال النووي –رحمه الله- : ( لم يرد الشافعي انحصار أبوابه في هذا العدد ، فإنها أكثر من ذلك ) ( العيني على البخاري – 1 / 22 ) 0
قال الشوكاني – رحمه الله - : ( وهذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام حتى قيل أنه ثلث العلم ) ( نيل الأوطار – 1 / 156 ) 0
وقال كذلك : ( وهو على انفراده حقيق بأن يفرد له مصنف مستقل ) ( نيل الأوطار – 1 / 156 ) 0
قال أبو عبيد : ( ليس في الأحاديث أجمع ولا أغنى ولا أنفع ولا أكثر فائدة منه ) 0
3)- من تعظيم العلماء لهذا الحديث رأوا البداءة به في مصنفاتهم وذلك تنبيهاً لطالب العلم إلى تصحيحه نيته :
قال الشوكاني – رحمه الله - : ( قال عبدالرحمن بن مهدي : من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث ) ( نيبل الأوطار – 1 / 156 ) 0
وقد عمل بهذه النصيحة كل من البخاري في صحيحه ، وتقي الدين المقدسي في كتابه ( عمدة الأحكام ) ، والسيوطي في ( جامعه الصغير ) ، والنووي في ( المجموع ) 0
* ثانياً : هل الحديث سيق بسبب مهاجر أم قيس :
ظن القوم أن الحديث سيق بسبب رجل ، أراد الزواج من امرأة يقال لها أم القيس ، فهاجر من أجل ذلك ، ولم يبتغ بهجرته فضيلة الهجرة ، واستدلوا بالآتي :
عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( من هاجر يبتغي شيئا فإنما له ذلك ) هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس ، فكان يقال له مهاجر أم قيس ) ( رواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ : ( كان فينا رجل خطب امرأة ، يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر ، فهاجر فتزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس ) 0
قال الحافظ بن حجر : ( وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك ، ولم أرى في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك ) ( فتح الباري – 1 / 10 ) 0 *
رابعاً : فائدة :
وبسبب بحث العلماء عن سبب صدور الحديث عنه ، لأن هذا يعين على فهم النص ، كما حرص المفسرون على معرفة أسباب النزول 0
قال ابن دقيق العيد – رحمه الله - : ( بيان سبب النزول طريق قوي في فهم القرآن ) ( إحكام الأحكام في شرح عمدة الأحكام – 1 / 81 ) 0
وقال أيضاُ : ( وقال ابن تيمية – رحمه الله - معرفة سبب النزول تعين على معرفة الآية فإن العلم بالسبب علم بالمسبب ) ( إحكام الأحكام في شرح عمدة الأحكام – 1 / 81 ) 0
وكذلك معرفة سبب صدور الحديث عنه معين على فهمه 0
* خامساً : معنى الحديث :
1)- قوله ( إنما الإعمال ) : هذا التركيب يفيد الحصر وذلك لوجود ( إنما ) حيث هيَّ من صيغ الحصر 0
قال ابن دقيق العيد – رحمه الله - : ( وفي ذلك اتفاق على أنها للحصر ) ( إحكام الأحكام في شرح عمدة الأحكام – 1 / 64 ) 0
ومعنى الحصر فيها : إثبات الحكم في المذكور ، ونفيه عما عداه 0
2)- أنواع الحصر :
أولاً : الحصر المخصوص : مثال ذلك ( إنما الأعمال بالنيات ) 0
ثانياً : الحصر المطلق : مثال ذلك : ( إنما أنت منذر ) 0 فوصفه منذر ليست مخصوصة فقد يكون مبشراً ونحوه من ألقاب أخرى 0 فالظاهر من الآية حصر مهمة رسول الله بالنذرة ، والأمر ليس كذلك ، فالرسول لا تنحصر مهمته بالنذرة ، بل له أوصاف أخرى ، مثاله : ( أنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ) ( صحيح الجامع 2338 ) 0
وكذلك قوله تعالى : ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ) ( سورة محمد – الآية 36 ) ، وهذا حصر مطلق حيث الحصر من حيث آثارها وإلا قد تكون سبباً إلى الخيرات 0
إذن تأتي " أنما " فتفيد الحصر المطلق ، وتارة تقتضي حصراً مخصوصاً ، ويفهم ذلك بالقرائن والسياق 0
يقول ابن دقيق العيد : ( فإذا وردت " إنما " فاعتبرها – أي على إطلاقها - ، فإن دل السياق المقصود من الكلام على الحصر في شيء مخصوص فقل به ، وإن لم يدل على الحصر في شيء مخصوص فاحمل الحصر على الاطلاق ) ( إحكام الأحكام في شرح عمدة الأحكام – 1 / 67 ) 0
3)- والحدبث يشمل جميع أفعال الجوارح ( الأفعال والأقوال ) :
* حيث أن البعض خصص الأعمال بما لا يكون قولاً ، وهذا فيه بعد 0
* ابن عباس يرى القول من العمل ولم يخرجه كما أخرجه بعض المتأخرين 0
* كما أن الترك من الأعمال لأنه عمل اختياري وهو يختلف باختلاف النيات ، فإن ترك الشر لله ، يثاب على الترك ، وإن ترك الخير الواجب بلا عذر فهو شر ويلام ، والدليل حديث أبو هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله قال : ( إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة ، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها ، فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ) ( أخرجه الإمام البخاري في صحيحه – الفتح 13 / 465 ) 0
4)- قوله : ( أنما الأعمال بالنيات ) هنا لا بد من تقدير المضاف المحذوف ، واختلف في تقديره :
* الذين اشترطوا وجوب النية قدروه بصحة الأعمال 0 بالنيات أو ما يقاربها 0
* والذين لم يشترطوا النية ، قدروه بكمال الأعمال بالنيات 0 وهذا يرد لأن النية شرط في قبول العمل كما قال الصنعاني 0
فالقول الأول أرجح لأن الصحة أكثر لزوماً للحقيقة من الكمال فالعمل عليها أولى وبهذا قال ابن دقيق العيد 0
5)- قوله : ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) : من نوى شيئاً يحصل له سواء عمله ، أو منعه عنه مانع يعذر به شرعاً 0
الدليل : ( رجل آتاه الله مالاً وعلماً ، فهو يعمل بعمله في ماله ، وينفقه في حقه ، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول : لو كان لي مثل مال هذا عملت فيه مثل العمل الذي يعمل ، فهما في الأجر سواء ) ( أخرجه الإمام أحمد في مسنده – 4 / 23 ، وابن ماجدة في سننه – برقم 4228 ) 0
يقول ابن رجب : ( فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه المقتضية لوجوده ، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية التي صار بها العمل صالحاً أو فاسداً أو مباحاً ) ( جامع العلوم والحكم – ص 7 ، 8 ) 0
ابن رجب : عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي ( 736 - 795 هـ ) ، ولد ببغداد وتوفي بدمشق ، كان محدثاً حافظاً فقيهاً أصولياً مؤرخاً ، تمكن في علم الحديث ، وصار له مكانة فيه ، تتلمذ على يديه غالب أصحابه الحنابلة ، من آثاره العلمية :
- تقرير القواعد وتحرير الفوائد – المشهور بـ ( قواعد ابن رجب في الفقه ) 0
- جامع العلوم والحكم 0
- شرح سنن الترمذي 0
- ذيل طبقات الحنابلة 0
6)- قوله : (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) : والهجرة حقيقتها الترك 0
والهجرة إلى الشيء : الانتقال إليه عن غيره 0
* فترك بلاد الكفر إلى دار الإسلام يسمى هجرة 0
* وترك مكة إلى الحبشة سمي هجرة 0
* وترك مكة أو غيرها إلى المدينة سمي هجرة 0
* وترك ما نهى الله عنه وزجر سمي هجرة 0
فالهجرة تختلف باختلاف مقاصد المكلف ، فمن هاجر حباً لله تبارك وتعالى ولرسوله ورغبة في التفقه في دينه ، فهذا هو المهاجر لله ورسوله ، ومن كان مقصد هجرته حظوط الدنيا وشهواتها من نساء ومال وجاه فحظه من هجرته الدنيا وحظوظها الفانية ، ولم يذكر بلفظ تحقيراً واستهانة لما طلبه من الدنيا 0
ويقاس على الهجرة سائر الأعمال والأقوال من حج وعمرة وجهاد وغيرها ، فصلاحها وفسادها بحسب النية الباعثة لها 0
* سادساً : كلام النية للعلماء يقع في وجهين :
الأول : تميز العبادات عن العادات : الإمساك عن الأكل يكون حمية للتطبب ، وقد يكون عدم القدرة على الأكل ، وقد يكون تركاً للشهوات 0
الثاني : تميز المقصود بالعمل : هل هو وجه الله عز وجل وحده ، أم معه غيره ، ولذلك أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفاً سماه ( كتاب الإخلاص والنية ) 0
* سابعاً : تعريف النية :
في اللغة : النية : القصد 0
في الإصطلاح ( الشرع ) : لم يضع الشرع للنية تعريفاً خاصاً بها ، ومن وضع لها تعريفاً خاصاً بها يختلف عن معناها اللغوي لم تكن له حجة قوية يستند إليها كما بين ذلك الدكتور عمر الأشقر في كتابه ( مقاصد المكافين ) 0
قال النووي – رحمه الله - : ( النية هي القصد إلى الشيء والعزيمة على فعله ) ( مواهب الجليل – 2 / 230 ) 0
وقال القرافي – رحمه الله - : ( هيَّ قصد الإنسان بقلبه ما يريد بفعله ) ( الذخيرة – 1 / 134 ) 0
وقال الخطابي – رحمه الله - : ( النية قصدك الشيء بقلبك ، وتحري الطلب منك له ، وقيل عزيمة القلب ) ( العيني على البخاري – 1 / 3 ) 0
* ثامناً : ما الفرق بين العزم والقصد :
فالعزم بالفعل المستقبل ، والقصد بالفعل الحاضر المتحقق كم ذكر ذلك إمام الحرمين – رحمه الله – 0
* تاسعاً : حكم التلفظ بالنية :
الجهر بالنية بدعة منكرة لأنه لم يثبت في كتاب الله ، ولا في سنة رسول الله ما يدل على مشروعيتها ، ومما هو معلوم أن الأصل بالعبادات التحريم ، ولا تثبت العبادة إلا بنص صريح صحيح 0
* الجهر بالنية وبالقراءة خلف الإمام ليس من السنة ، بل مكروه فإن حصل تشويش على المصلين فحرام 0
* عاشراً : أثر النية الصالحة على المباحات :
يعرف علماء الأصول المباح : هو الذي لا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه ، ويكون فعله وتركه سيان 0
ولكن المباح إذا خالطته النية الصالحة ، يكون بذلك قربة ويثاب فاعله على ذلك ، فمن أكل وشرب ونوى التقوى على طاعة الله ورسوله ، يثاب على هذه النية ، وكذلك من نوى بكسبه كف وجهه عن المسألة والإنفاق على نفسه وعياله 0
الدليل : قوله : ( وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أليس كان يكون عليه وزر ، فكذلك إذا وضعها في الحلال له أجر ) ( صحيح مسلم ) 0
* حادي عشر : ضوابط تحويل المباح إلى قربة :
1)- لا يجوز أن تتخذ المباحات قربة في صورتها وذاتها :
كمن يظن أن المشي أو الأكل أو الوقوف أو اللباس قربة لله في ذاته ، لذلك أنكر صلى الله عليه وسلم على أبي اسرائيل عندما رآه قائماً في الشمس ، فسأل عن سبب وقوفه فقيل له : ( هذا أبو اسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ، ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : مروه فليتكلم ، وليستظل ، وليعقد ، وليتم صومه ) ( أخرجه البخاري في صحيحه ) 0
2)- أن يكون المباح وسيلة للعبادة 0
3)- أن يكون الأخذ به على أنه تشريع إلهي :
ينبعي للمسلم أن يأخذ المباح معتقداً أن الله عز وجل أباحه له ، والله يحب أن تأتي رخصه كما تأتي عزائمه 0
4)- أن لا يؤدي المباح إلى تهلكة :
فيباح للعبد أن يترك الطعام والشراب أحياناً ولكم لا يجوز أن يتمادى في ذلك حتى يهلك نفسه 0
* ثاني عشر : من فوائد الحديث :
أولاً : في الحديث دليل على أن النية من الإيمان 0
ثانياً : يجب على المسلم قبل القدوم على العمل أن يعرف حكمه 0 هل هو مشروع أم لا ، هل هو واجب أم مستحب 0
ثالثاً : والحديث يدل على اشتراط النية في أعمال الطاعات ، وأن ما وقع من الأعمال بدونها غير وعتد به 0
وبعد هذا الفهم العام والشامل يراني الكثير بأنني لا أميل إلى تحديد النية فأقول نية الطرد ونية الحرق ، فالنية عامه وهي شفاء المريض بإذن الله عز وجل ، وقد يتخذ المعالج أساليب في الوصول وتحقيق ذلك الهدف ، والله تعالى أعلم 0
زادكم الله من فضله ومنه وكرمه ، مع تمنياتي لكم بالصحة والسلامة والعافية :